الحوسبة العصبية، المعروفة أيضًا باسم الهندسة العصبية، هي نهج حوسبة يحاكي طريقة عمل الدماغ البشري. يتضمن هذا النهج تصميم أجهزة وبرمجيات تحاكي الهياكل العصبية والتشابكية للدماغ ووظائفها لمعالجة المعلومات.
على الرغم من أن الحوسبة العصبية تبدوا مجالًا حديثًا، إلا أن أصولها تعود إلى الثمانينيات، وذلك عندما طوّر Misha Mahowald وCarver Mead أول شبكية سيليكونية (Silicon Retina) وقوقعة سيليكونية (Silicon Cochlea)، بالإضافة إلى أول خلايا عصبية (Neurons) وتشابكات سيليكونية (Synapses)، مما مهد الطريق لنموذج الحوسبة العصبية.1
واليوم، ومع توسع أنظمة الذكاء الاصطناعي (AI)، ستحتاج إلى أجهزة وبرامج متطورة لدعمها. يمكن أن تعمل الحوسبة العصبية كمسرع لنمو الذكاء الاصطناعي، وتعزّز الحوسبة عالية الأداء، وتكون واحدةً من اللبنات الأساسية للذكاء الاصطناعي الفائق (ASI). تجري حاليًا تجارب لدمج الحوسبة العصبية مع الحوسبة الكمومية (Quantum Computing).2
وقد أشارت شركة الاستشارات الإدارية Gartner إلى الحوسبة العصبية باعتبارها من أفضل التقنيات الناشئة للشركات.3 وبالمثل، أشارت شركة PwC للخدمات المهنية إلى أن هذه التقنية تتقدم بوتيرة سريعة، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى النضج الذي يؤهلها للاستخدام على نطاق واسع..4
نظرا لأن الحوسبة العصبية مستوحاة من الدماغ البشري، فإنها تستمد إلهامها إلى حدٍّ كبير من علم الأحياء وعلم الأعصاب.
ووفقًا لمعهد Queensland Brain Institute، فإن الخلايا العصبية "هي الوحدات الأساسية في الدماغ والجهاز العصبي."5 تعمل هذه الخلايا العصبية كرسائل تنقل المعلومات بين مناطق الدماغ المختلفة وأجزاء الجسم. عندما تصبح الخلية العصبية نشطة أو "تُطلق ذبذبات"، فإنها تُطلق إشارات كيميائية وكهربائية تنتقل عبر شبكة من نقاط الاتصال تُسمَّى التشابكات العصبية (Synapses)، مما يسمح لها بالتواصل مع بعضها.6
يتم نمذجة هذه الآليات العصبية والبيولوجية في أنظمة الحوسبة العصبية من خلال الشبكات العصبية المثارة بالذبذبات (SNNs). الشبكة العصبية المثارة بالذبذبات هي نوع من الشبكات العصبية الاصطناعية التي تتكون من الخلايا العصبية المثارة بالذبذبات والتشابكات العصبية.
تقوم الخلايا العصبية المثارة بالذبذبات بتخزين البيانات وتعالجها بطريقة مشابهة للخلايا العصبية البيولوجية، حيث يكون لكل خلية عصبية شحنة خاصة وقيم تأخير وعتبة خاصة بها. تنشئ التشابكات العصبية مسارات بين الخلايا العصبية ولها أيضا قيم تأخير وأوزان مرتبطة بها. يمكن برمجة القيم التالية في أنظمة الحوسبة العصبية: شحنات الخلايا العصبية، والتأخيرات العصبية والتشابكية، وعتبات الخلايا العصبية، وأوزان التشابكات.7
في بنية الحوسبة العصبية، يتم تمثيل التشابكات بأجهزة تشابكية تعتمد على الترانزستور، باستخدام دوائر لنقل الإشارات الكهربائية. تتضمن التشابكات العصبية عادةً عنصر تعليميًا، حيث تتغير أوزانها بمرور الوقت استنادًا إلى النشاط داخل الشبكة العصبية المثارة بالذبذبات.7
تتميز الشبكات العصبية المثارة بالذبذبات (SNNs) عن الشبكات العصبية التقليدية بأنها تأخذ في اعتبارها عنصر الزمن (Timing) أثناء العمليات. تتراكم قيمة شحنة الخلية العصبية بمرور الوقت؛ وعندما تصل هذه الشحنة إلى قيمة العتبة المرتبطة بالخلية العصبية، تُصدر الخلية العصبية ذبذبة لنقل المعلومات عبر الشبكة التشابكية. إذا لم تتجاوز الشحنة قيمة العتبة، فإنها تتبدد تدريجيًا، في عملية تُعرف باسم "التسرُّب". بالإضافة إلى ذلك، تعتمد الشبكات العصبية المثارة بالذبذبات على الأحداث، حيث تسمح قيم التأخير العصبي والتشابكي بنشر المعلومات بشكل غير متزامن.7
شهد مجال الحوسبة العصبية تقدمًا كبيرًا على مدى العقود الماضية، خاصةً في تطوير الأجهزة العصبية.
في الأوساط الأكاديمية، كان من بين التطبيقات البارزة نظام Neurogrid من جامعة ستانفورد، وهو نظام تناظري رقمي مختلط متعدد الرقائق يستطيع "محاكاة مليون خلية عصبية بمليارات من التشابكات العصبية في الوقت الحقيقي."8 وفي الوقت ذاته، طوّر مركز الأبحاث IMEC رقاقة عصبية ذاتية التعلم.9
كما دعمت الهيئات الحكومية جهود البحث في مجال الخلايا العصبية. فقد دعم الاتحاد الأوروبي مشروع الدماغ البشري على سبيل المثال، وهو مبادرة استمرت 10 سنوات انتهت في عام 2023. كان الهدف من هذه المبادرة فهم الدماغ بشكل أفضل، واكتشاف علاجات جديدة لأمراض الدماغ، وتطوير تقنيات حوسبة جديدة مستوحاة من بنية الدماغ.
تشمل هذه التقنيات آلات SpiNNaker وBrainScaleS العصبية واسعة النطاق. SpiNNaker هي آلة تعمل في الوقت الحقيقي باستخدام رقائق رقمية متعددة الأنوية، وتعتمد على شبكة قائمة على الحزم لتحسين تبادل الإشارات العصبية. BrainScaleS هي آلة متسارعة تحاكي النماذج الإلكترونية التناظرية للخلايا العصبية والتشابكات العصبية. ويتضمن نظام رقائق على مستوى الرقاقة من الجيل الأول (يسمى BrainScaleS-1) ونظام رقائق أحادي من الجيل الثاني (يسمى BrainScaleS-2).10
في قطاع التقنية، تشمل المعالجات العصبية Loihi من شركة Intel، وNeuronFlow من شركة GrAI Matter Labs، والرقائق العصبية TrueNorth والجيل الجديد NorthPole من شركة IBM ® .
معظم الأجهزة العصبية مصنوعة من السيليكون وتستخدم تقنية CMOS (أشباه موصلات أكسيد الفلز المُكمِّلة). يجري الباحثون تجارب على مواد جديدة، منها: المواد الكَهْرَحديدية والمواد متغيرة الطور. تُعد عناصر الذاكرة الإلكترونية غير المتطايرة التي تسمى ميمريستورز (Memristors) (مزيج من "الذاكرة" و"المقاومة") وحدة أخرى تُستخدم لتحقيق التكامل بين معالجة البيانات والذاكرة في الخلايا العصبية المثارة بالذبذبات.
في مجال البرمجيات، يتطلب تطوير خوارزميات التدريب والتعلم للحوسبة العصبية استخدام تقنيات تعتمد على التعلم الآلي وأخرى لا تعتمد عليه. إليك بعض هذه التقنيات:7
لإجراء الاستدلال، يمكن تحويل الشبكات العصبية العميقة المدربة مسبقًا إلى شبكات عصبية مثارة بالذبذبات باستخدام استراتيجيات تخطيط مثل توحيد الأوزان أو وظائف التنشيط. يمكن أيضا تدريب الشبكة العصبية العميقة بطريقة يتم فيها تنشيط الخلايا العصبية مثل الخلايا العصبية المثارة بالذبذبات.
تعتمد هذه الخوارزميات المستوحاة بيولوجيًا على مبادئ التطور البيولوجي، مثل الطفرات والتكاثر والانتقاء. تُستخدم الخوارزميات التطورية لتصميم أو تدريب الشبكات العصبية المثارة بالذبذبات (SNNs) من خلال تغيير وتحسين معلماتها (مثل التأخيرات والعتبات) وتعديل بنيتها (مثل عدد الخلايا العصبية وطريقة الربط بين التشابكات العصبية) مع مرور الوقت.
يمكن تمثيل الشبكات العصبية المثارة بالذبذبات (SNNs) كرسوم بيانية موجهة. عند إطلاق إحدى العقد (Nodes) ذبذبة، يتزامن توقيت إطلاق العقد الأخرى للذبذبات مع طول أقصر مسار من العقدة الأصلية.
في علم الأعصاب، تشير اللدونة العصبية (neuroplasticity) إلى قدرة الدماغ البشري والجهاز العصبي على تعديل مساراته العصبية والتشابكات العصبية استجابةً للإصابات. في الهندسة العصبية (Neuromorphic Architecture)، تُنفذ اللدونة التشابكية عبر اللدونة المعتمدة على توقيت الذبذبات (STDP). تقوم هذه العملية بضبط أوزان التشابكات العصبي بناءً على توقيت إطلاق الذبذبات المرتبطة بالخلايا العصبية.
تستخدم الحوسبة الخزانية، التي تعتمد على الشبكة العصبية المتكررة، "مخزن" لإرسال المدخلات إلى فضاء حسابي عالي الأبعاد، ويتم تدريب آلية قراءة لاستخلاص مخرجات المخزن.
في الحوسبة العصبية الشكل ، تُغذَّى إشارات الإدخال إلى شبكة عصبية مثارة بالذبذبات (SNN)، تعمل كمخزن. الشبكة العصبية المثارة بالذبذبات غير مدربة؛ وبدلاً من ذلك، تعتمد هذه الشبكة على الروابط المتكررة داخل شبكتها إلى جانب التأخيرات التشابكية لرسم الإدخالات في فضاء حسابي ذي أبعاد أعلى دون الحاجة إلى تدريب.
تحمل الأنظمة العصبية الكثير من الوعود الحوسبية. فيما يلي بعض الفوائد المحتملة التي يقدمها هذا النوع من هندسة الحوسبة:
باعتبارها تقنية مستوحاة من الدماغ، تتضمن الحوسبة العصبية أيضًا مفهوم اللدونة. وقد صُممت الأجهزة العصبية للتعلم في الوقت الحقيقي، والتكيف باستمرار مع المنبهات المتطورة في شكل إدخالات ومعلمات. وهذا يعني أنها يمكن أن تتفوق في حل المشكلات الجديدة.
كما ذكرنا سابقا، تعتمد الأنظمة العصبية على الأحداث، وتعمل الخلايا والتشابكات العصبية فقط استجابة للخلايا العصبية الأخرى المثارة بالذبذبات. ونتيجة لذلك، الأجزاء النشطة فقط من الشبكة تستهلك الطاقة بينما تبقى الأجزاء الأخرى في وضع السكون، مما يؤدي إلى كفاءة أعلى في استهلاك الطاقة
تحتوي معظم أجهزة الكمبيوتر الحديثة، والمعروفة أيضا باسم أجهزة كمبيوتر Von Neumann، على وحدات معالجة مركزية منفصلة عن وحدات الذاكرة، ويمكن أن يتسبب نقل البيانات بين هذه الوحدات في حدوث اختناق للبيانات (Bottleneck)، مما يؤثر سلبًا على السرعة. من ناحية أخرى، تقوم أنظمة الحوسبة العصبية بتخزين البيانات ومعالجتها في الخلايا العصبية الفردية، مما يقلل من زمن الانتقال وسرعة الحوسبة مقارنة بهندسة Von Neumann.
نظرًا للطبيعة غير المتزامنة للشبكات العصبية المثارة بالذبذبات (SNNs)، يمكن للخلايا العصبية الفردية إجراء عمليات مختلفة في وقت واحد. لذلك من الناحية النظرية، يمكن للأجهزة العصبية تنفيذ عدد من المهام يساوي عدد الخلايا العصبية في أي لحظة. تمتلك البُنى العصبية قدرات معالجة متوازية هائلة، مما يسمح لها بإتمام المهام بسرعة فائقة.
لا تزال الحوسبة العصبية في ماحلها المُبكرة. تواجه الأنظمة العصبية الشكل بعض التحديات، شأنها في ذلك شأن أي تقنية في مراحلها المبكرة:
يمكن أن تتسبب عملية تحويل الشبكات العصبية العميقة إلى شبكات عصبية مثارة بالذبذبات في انخفاض الدقة. بالإضافة إلى ذلك، قد تواجه الميموريستورات (Memristors) المستخدمة في الأجهزة العصبية اختلافات بين الدورات والأجهزة يمكن أن تؤثر سلبًا على الدقة، بالإضافة إلى حدود لقيم الأوزان التشابكية التي يمكن أن تقلل من الدقة.7
باعتبارها تقنية ناشئة إلى حد ما، تعاني الحوسبة العصبية من نقص في المعايير عندما يتعلق الأمر بالبنية والأجهزة والبرمجيات. كما أن الأنظمة العصبية لا تمتلك معايير محددة وواضحة، أو مجموعات بيانات نموذجية، أو مهام اختبار ومقاييس محددة، لذلك يصبح من الصعب تقييم الأداء وإثبات الفعالية.
لا تزال معظم المقاربات الخوارزمية للحوسبة العصبية تستخدم برمجيات مصممة لأجهزة فونvon Neumann، مما يُقيّد النتائج بما يمكن لتلك الهندسة تحقيقه. وفي الوقت نفسه، تفتقر الحوسبة العصبية إلى وجود واجهات برمجة التطبيقات ونماذج البرمجة ولغات البرمجة أو إلى انشتارها على نطاق أوسع.
الحوسبة العصبية هي مجال معقد، مستمد من تخصصات مثل علم الأحياء وعلوم الكمبيوتر والهندسة الإلكترونية والرياضيات وعلم الأعصاب والفيزياء. هذا يجعل من الصعب فهمها خارج مختبر أكاديمي متخصص في الأبحاث العصبية.
إن التطبيقات الحالية في العالم الحقيقي للأنظمة العصبية قليلة، ولكن يمكن تطبيق نموذج الحوسبة في حالات الاستخدام هذه:
بفضل أدائها العالي وكفاءتها في استهلاك الطاقة، يمكن أن تساهم الحوسبة العصبية في تحسين مهارات التنقل للمركبات ذاتية القيادة، مما يسمح بتصحيح المسارات بسرعة وتحسين تجنب الاصطدامات وتقليل انبعاثات الطاقة.
يمكن أن تساعد الأنظمة العصبية في الكشف عن الأنماط أو الأنشطة غير المعتادة التي يمكن أن تشير إلى هجمات سيبرانية أو اختراقات. ويمكن التصدي لهذه التهديدات بسرعة بفضل زمن الانتقال القصير وقدرات المعالجة السريعة للأجهزة العصبية.
ملاءمة بنية الحوسبة العصبية للذكاء الاصطناعي الطرفي. تتميز بنية الحوسبة العصبية (Neuromorphic Architecture) بانخفاض استهلاكها للطاقة، مما يجعلها مناسبة للأجهزة ذات البطاريات قصيرة العمر مثل الهواتف الذكية والأجهزة القابلة للارتداء، كما أن قدرتها على التكيف وطبيعتها المدفوعة بالأحداث تتناسب مع أساليب معالجة المعلومات في أجهزة إنترنت الأشياء (IoT) مثل أجهزة الاستشعار عن بعد والطائرات بدون طيار.
بفضل قدرات الحوسبة العصبية الواسعة على المعالجة المتوازية، يمكن استخدامها في تطبيقات التعلم الآلي للتعرف على الأنماط في اللغة الطبيعية والأصوات، وتحليل الصور الطبية ومعالجة إشارات التصوير المأخوذة من فحوصات الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) واختبارات تخطيط كهربية الدماغ (EEG) التي تقيس النشاط الكهربائي في الدماغ.
وباعتبارها تقنية قابلة للتكيف، يمكن استخدام الحوسبة العصبية لتعزيز مهارات التعلم واتخاذ القرار لدى الروبوت في الوقت الحقيقي، مما يحسّن قدرته على التعرف على الأشياء، ويساعده في التنقل عبر تصميمات المصانع المعقدة وتسريع عمله في خطوط التجميع.
1 Carver Mead Earns Lifetime Contribution Award for Neuromorphic Engineering, Caltech, 7 May 2024.
2 Neuromorphic Quantum Computing, Quromorphic, Accessed 21 June 2024.
3 30 Emerging Technologies That Will Guide Your Business Decisions, Gartner, 12 February 2024.
4 The new Essential Eight technologies: what you need to know, PwC, 15 November 2023.
5 What is a neuron?, Queensland Brain Institute, Accessed 21 June 2024.
6 Action potentials and synapses, Queensland Brain Institute, Accessed 21 June 2024.
7 Opportunities for neuromorphic computing algorithms and applications, Nature, 31 January 2022.
8 Neurogrid: A Mixed-Analog-Digital Multichip System for Large-Scale Neural Simulations, IEEE, 24 April 2014.
9 IMEC demonstrates self-learning neuromorphic chip that composes music, IMEC, 16 May 2017.
10 Neuromorphic computing, Human Brain Project, Accessed 21 June 2024.